دكالة 24:
في حيّنا الصغير، حيث تخرج النميمة من النوافذ قبل أن يفتح أحدهم الستائر، كان يعيش ” الزائل” ، ليس “الزائل ” الحلاق، ولا ” الزائل ” الميكانيكي، بل ” الزائل ” خطاف لبلايص بين سيدي بنور و اعدادية النصر بالجماعة الترابية امطل… لا موهبة و لا فائدة اجتماعية له تذكر، كائن بشري بحجم مشكلة، له رأس، نعم، لكن لا يُعرف بالتحديد ماذا يسكن فيها.
كان ” الزائل ” خطاف لبلايص يمشي متأمّلًا كما يتأمّل الفلاسفة، لكنه لا يُفكّر. تراه يُحدّق في السماء فتظنه يُعيد ترتيب الأبراج ، بينما هو يحاول تذكّر إن كان قد أكل البارحة ، و هل تبول على ظهره ابنه الصغير الذي يضعه على ظهره كل ليلة لينام ، و ان كان عدد التلاميذ قد تكاثر عند زوجته ، و نفس الشيء عنده ، يتهيأ له أنه يخاطب في الناس بوجهه القبيح ، و رائحته النتنة ، يحاول و قد زاد يتحدث بثقة غريبة، كأن عقله مصنع إنتاج أفكار في غابة الحيوانات… و يأتينا هذه المرة بحيوان يعشق سرقة العسل و كأن عقله انفجرت منه العبقرية وهو في الحقيقة مقبرة عقلية، تتوسّطها جيفة حمار نافق.
الحمار، حسب نظرية الحاج ” البندكاني” وهو رجل حكيم قضى عمره بين الكتب والبصل – قد سكن عقل ” خطاف لبلايص ذات مساء عندما قرر ” الزائل ” أن يثبت أن اللبن يُمكن أن يُغلى بالثلج ، لم يفلح، بالطبع، لكن من يومها، تغيّر شيء في عينيه، صارت نظراته تشبه نظرات حمار حقيقي رأى في حياته ثلاثة أشياء: كومة تبن، حبل، ومهماز( منغاز ) .
كان خطاف لبلايص يطرح على زبنائه من الركاب ( المخطوفين ) أسئلة لا تنتمي إلى المنطق البشري:
“لماذا القرد أفسد الغابة؟“
“هل أفضح القرد عند الأسد؟
“لماذا الغابة فيها ثعالب و غرلة و قرود ؟“
“هل الخروف يعرف السباحة ؟“
( المخطوفين) في سيارته الملعونة رغم أنها أفضل من سابقتها صاروا يتجنبون الحديث معه، ليس استعلاءً، بل حفاظًا على سلامة أدمغتهم من موجات الغباء المُعدي. “الزائل ” خطاف لبلايص كان مثل فيروس غير ضار جسديًا، لكنه يفتك بالمنطق.
ذات يوم قرّر خطاف لبلايص أن يخوض الوقفات الاحتجاجية و الاعتصامات ، وقال في خطبته المرتجلة أمام أمثاله :”أنا جاي أحارب الفساد… ندوس عن حقوق التلميذ و ارغامه على الساعات الاضافية و هو حال زوجتي …، و أن اندس في جمعيات الآباء أينما كانت ….و ليس العكس!”صفق أمثاله بحرارة، و قد تعجبوا لأنهم رأوا فراشة في الغابة مع الحيوانات من عائلة المحتج و المعتصم ، و عليه فالاحتجاج ناجح و الاعتصام كذلك .
رغم كل هذا، كان خطاف لبلايص محبوبًا ، فيه طيبة تشبه طيبة الطين و رائحة روث البهائم ( أعزكم الله ) … لا يؤذي أحدًا، لكنه يترك أثرًا على كل من يمر عليه ، وتلك البساطة ( التي في الحقيقة كانت غباءً مكللًا بوقار مزيف) جعلته أقرب إلى أسطورة حيّ، يُروى عنه ولا يُجادَل .
في آخر مرة شوهد فيها، كان خطاف لبلايص ينظر الى مرآة السيارة الأمامية ويتحدث إليها قائلاً:
“أنا مقتنع أنني قادر على اعادة الهدوء في الغابة ، و قادر على مواجهة الأسد ، و أن أشاكس القرود و الثعالب … لكن أشعر أن في مخي شيء صامت .”
وابتسم في رضا غامض ، نعم، كان صادقًا ، ما في رأسه لم يكن عقلًا بل كان كائنًا ساكنًا… حمارًا ميتًا، ينهق أحيانًا بصوت ” الزائل ” خطاف لبلايص .







