شخصيات ذكرها التاريخ :”علي بن أحمد بن سعيد بن حزم “2/2 الحلقة 16

doukkala24
2021-04-29T00:45:28+00:00
2021-04-29T00:55:33+00:00
تقافة و فنون
29 أبريل 2021آخر تحديث : منذ 3 سنوات
شخصيات ذكرها التاريخ :”علي بن أحمد بن سعيد بن حزم “2/2 الحلقة 16

دكالة 24:عدنان حاد

  • – 16 –

 يحكي ابن حزم كيف أن هذه الجارية، أي الفتاة بلغتنا اليوم، كانت في صُحبة من الفتيات والنساء الأخريات في دارهم الفسيحة التي كانت على قمة عالية من قمم قُرطبة في يوم مشمس لا ينساه، وكيف كانت نوافذها مشرعة على لوحة بانورامية رائقة تشاهد منها النساء وابن حزم بينهنّ مناظر قرطبة العامرة، وكيف كان يحاول الاقتراب من هذه الفتاة علّها تتفضل عليه بكلمة أو لمحة أو أن تميل إليه مجرد ميل، فيبرد ما كان في قلبه من الشوق ولو قليلا، يقول:

“ثم تنقّلن إلى قصبة كانت في دارنا مُشرفة على بُستان الدار، ويُطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها (مناطقها)، مُفتحة الأبواب، فصِرن ينظرن من خلال الشراجيب (الشُّرفات) وأنا بينهن، فإني لأذكر أني كنت أقصدُ نحو الباب الذي هي فيه أُنسا بقربها، مُتعرّضا للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لُطف الحركة، فأتعمّدُ أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره، وكانت قد علِمَت كَلَفي (حبي وتعلقي) بها، ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه، لأنهن كن عددا كثيرا”.

ثم يحكي ابن حزم كيف أجبرت الحوادث السياسية والده على الانتقال من شرقي قرطبة إلى غربيها حيث بيوتهم القديمة في السنوات الأخيرة من انهيار حكم الأمويين، واضطراب الثورات ما بين عامي 399-402هـ، وكيف أدّت هذه الحوادث إلى اضطهاد والده الوزير، وابتعاد ابن حزم رغما عنه عن حبيبته التي عشقها تلك، حتى إذا جاءت وفاة والده في عام 404هـ وهو في سن العشرين من عُمره، جاءت تلك الفتاة للتعزية ضمن مَن جئنَ من النساء، وقد رآها فزاد مُصابه، وأثارت عليه ذكريات حاول نسيانها، يقول:

“فلَقد أثارتْ وَجدا دفينا، وحركَت ساكنا، وذكّرتني عهدا قديما، وحُبا تليدا، ودهرا ماضيا، وزمنا عافيا، وشهورا خوالي، وأخبارا توالي، ودهورا فواني، وأياما قد ذَهبت، وآثارا قد دَثرت، وجدّدت أحزاني، وهيّجت بلابلي (وساوسي وخواطري)، على أني كنتُ في ذلك النهار مُرزءا مصابا من وجوه، وما كنتُ نسيت، ولكن زاد الشّجى وتوقّدت اللوعة، وتأكد الحزن، وتضاعف الأسف، واستجلب الوجد ما كان منه كامنا فلبّاه مجيبا، فقلتُ قطعة منها:

يبكي لميتٍ ماتَ وهو مُكرّم … ولَلحيّ أولَى بالدموع الذوارفِ
فيا عجبًا مِن آسفٍ لامرئٍ ثَوَى … وما هو للمقتول ظلمًا بآسفِ”.

لم تكن هذه الفاجعة هي الإخفاق الوحيد لابن حزم في مسيرة حُبّه، بيد أنه سرعان ما تحامل على نفسه ونسي تلك الفتاة أو تناساها قليلا، حتى شغَلته أخرى اسمها “نعَم” بحبّها وأخلاقها وجمالها الأخّاذ، وكانت هذه الفتاة أو الجارية التي تملّكها بيمين، على خلاف حبّه الأول، متوافقة معه، مُطيعة له، يبدو أنهما تعاهدا على المسير معا حتى آخر العُمر، لكن للقدر أحكامه النافذة، يقول:

“كنتُ أشد الناس كلفا وأعظمهم حبا بجارية لي كانت فيما خلا اسمها نَعم، وكانت أُمنية المتمني، وغَاية الحُسن خُلقا وخَلقا وموافقة لي، وكنتُ أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودّة، ففجَعتني بها الأقدار، واخترمتها الليالي ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسِنّي حين وفاتها دُون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمتُ بعدها سبعة أشهر لا أتجردُ عن ثيابي، ولا تفتُر لي دَمعة على جُمود عيني وقلة إسعادها، وعلى ذلك فو الله ما سلوتُ حتى الآن، ولو قُبل فداء لفديتها بكل ما أملك مِن تالدٍ وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة عليّ مُسارعا طائعا، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيتُ ذكرها، ولا أُنِسْتُ بسواها، ولقد عَفَى حُبّي لها على كل ما قبله، وحرّم ما كان بعده”[5].

إننا نجد بين ثنايا حكايات “طوق الحمامة” بعض القصص الأخرى التي خاب فيها مسعى ابن حزم، وأثّرت فيه للغاية، وقد كان للحق من أشجع المؤرخين والفقهاء وعلماء الشريعة حين اعترف بهذه المشاعر في كتابه ذاك قبل ألف عام كاملة، إن حب ابن حزم، وإخفاقاته التي توالت عليه، لم تُنسِه تلك اللذة التي انسابت في كلماته عذبة المذاق كما نراها، صادقة أيّما صدق في إيصال معناها بل وفي مبناها، لقد اعترف بروعة الحب وجماله وحكاياته التي عاشها بين قصور قرطبة وأزقتها، وبساتين الأندلس وغياضها، وحكايات العُشّاق فيها، وتلك لمحة إنسانية رومانسية في تاريخ الأدب بعد الإسلام لافتة ومُدهشة بلا ريب!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

error: Content is protected !!